vendredi 6 février 2015

التجارة و الاستبطان الفينيقي في غرب البحىر الأبيض المتوسط


إذا كان للتوسع الفينيقي غرب البحر المتوسط دوافع وعوامل تذكر، فإن لهذا التوسع مظاهر وتجليات ونتائج كان أبرزها النشاط التجاري في الرقعة المتوسطية الذي كان الدافع الأساسي لهدا التوسع ،إلى جانب النشاط الذي ينسب إلى الظاهرة الاستيطانية التي عرفتها الرقعة المذكورة، مع التحفظ على استعمال لفظ الاستيطان، على اعتبار الجدل والنقاش المستفيض الذي يثيره، بين من يعتبره استيطان استعماري، وأخر يعتبره استيطان تجاري سلمي.
فمن المعلوم أن الفينيقيين عرفوا واشتهروا بالتجارة، وهذه الأخيرة كانت في إطار تنقلاتهم وحلولهم بالأماكن التي يصلون إليها ، تفرض عليهم إقامة بعض المحطات التجارية، التي يرجح أنها قد تحولت إلى مستوطنات في وقت لاحق أو كما يسميها بعض الكتاب والباحثين القدامى أو المعاصرين مستوطنات عوض محطات تجارية.
 إن تناولنا لهذا الموضوع يطرح علينا الكثير من الإشكاليات، لعل أهمها كيف يمكننا معالج هذا الموضوع وتوضيحه من كل الجوانب، دون الغوص في تلك الإشكاليات.  ومن اجل ذلك سوف نحاول طرح إشكاليتين جوهريتين وهما:
·        ما هو دور التجارة الفينيقية في خلق المستوطنات؟
·        وما هو دور المستوطنات في التجارة الفينيقية؟
هاتين الإشكاليتين حاولنا الإجابة عنهما خلال العرض عبر محوريين رئيسيين:
المحور الأول:  وتطرقنا فيه عن الإطار التاريخي الذي جاء فيه الاستيطان الفينيقي في غرب البحر الأبيض المتوسط. مع التفصيل في ذكر تلك المستوطنات ، مستنديين في هذا التفصيل علي المصادر الأدبية من جهة والمصادر الاركيولوجية من ثانية حتى نفي للموضوع حقه. و ذلك من اجل فهم دور التجارة في خلق المستوطنات الفينيقية في غرب البحر الأبيض المتوسط.
المحور الثاني وتطرقنا فيه إلى العلاقة المزدوجة بين التجارة والاستيطان بهدف فهم دور المستوطنات في التجارة الفينيقية. ونظرا لضخامة الموضوع اقتصرنا علي نموذجيين علي سبيل المثال لا للحصر ، وهما نموذج قادس ونموذج ليكسوس
كما حرصنا على إدراج ملحق يتضمن خرائط توضيحية، وأشكال تفصيلية حتى يتسنى لنا فهم الموضوع بشكل أكثر وضوح.




      I.            الاستيطان الفينيقي بغرب البحر الأبيض المتوسط
1.    الإطار التاريخي للاستيطان الفينيقي بغرب البحر الأبيض المتوسط
لقد تناولت العديد من المصادر الأدبية القديمة ظاهرة التوسع الفينيقي في غربي البحر الأبيض المتوسط ، ومن بين هذه المصادر نجد نص سالوست الذي يختزل بعضا من أسباب التوسع الفينيقي، يقول النص: (( كان بعض الفينيقيين قد هاجروا إلى الحوض الغربي للبحر الأبيض لمتوسط بدافع التقليل الضغط السكاني في منطقة الساحل الفينيقي ، والبعض الأخر كانت له الرغبة السيطرة والتوسع. أما الفئة الثالثة فكان همها الوحيد هو الربح التجاري والحصول على المواد الخام. ومن اجل ذلك كله أسسوا على شواطئ البحر كلا من هيبون، وحضرموت ولبدة ومدنا أخرى. وقد نمت هذه المستوطنات بسرعة حتى بلغت قمة الازدهار مما جعلها تستمر في دفع المساعدات الرمزية للمدينة الأم ))[1]. ومهما اختلفت أسباب التوسع، فان من المؤكد أن مدينة صور الفينيقية هي التي قادت عملية التوسع الفينيقي بغرب البحر الأبيض المتوسط ، وقد مر هذا التوسع عبر مرحلتين أساسيتين:
         مرحلة الارتياد الباكرة وتمتد من أواخر القرن الثاني عشر ق.م إلى حوالي القرن التاسع ق.م.
         مرحلة الاستيطان وتبدأ من القرن التاسع ق.م إلى القرن السادس ق.م.
ومما لا شك فيه أن فترة استيطان الفينيقيين في غربي البحر الأبيض المتوسط، تعد مكملة لمرحلة الارتياد الباكرة. ويحتمل ان المحطات الهامة والمراكز التجارية التي قد تأسست في مرحلة الارتياد الباكرة في كل شطري الحوض الغربي البحر الأبيض المتوسط الشمالي والجنوبي، هي نفسها قد تحولت إلى مستوطنات حينما اكتملت لها الشروط الملائمة لذلك،  لكن من الصعب التمييز في المنشاة الواحدة بين مراحلها التطورية وانتقالها من مرحلة الوكالة إلى مرحلة المستوطنة ، باستثناء حالة قرطاج التي بزغت منذ الوهلة الأولى على شكل مدينة مستوطنة .
وهناك من المؤرخين من يعيد فترة الاستيطان الفينيقي في غربي البحر الأبيض المتوسط إلى القرن العاشر ق.م على اعتبار أن هذا القرن يمثل العصر الذهبي بالنسبة للساحل الفينيقي عامة ومدينة صور خاصة تحت حكم الملك حيرام بني بي بعل 980-936 ق.م الذي يعد المؤسس الحقيقي لمملكة مدينة صور، وعمل على تشجيع التجارة البحرية في كامل شواطئ البحر الأبيض المتوسط ، وحسن ميناء صور ، واله يعزو كثير من المؤرخين توطيد وتوسيع المستوطنات الفينيقية في غربي البحر الأبيض المتوسط .
ولعل من بين العوامل التي ساعدت على الاستيطان في غربي المتوسط حذاقة وبراعة التجار الفينيقيين في كسب ود وصداقة السكان المحليين. أضف إلى ذلك تدفق التجار الفنينقيين من الوطن الأم، واكتشافهم للمحيط الأطلسي الذي لم يسبق له احدهم غيرهم من الشعوب البحرية الأخرى مثل الإغريق[2].

2.    المستوطنات في غرب البحر الابيض المتوسط ) الشكل رقم 1)
عموما يمكن القول أن التجارة كانت المحفز الأساسي لتدرج بعض المنشات الفينيقية من مرحلة المحطة التجارية إلى مرحلة المستوطنة أو المدينة. و حسب الباحثة الاسبانية ماريا اوخينا اوبيت[3] يمكن تقسيم مجال الانتشار البحري التجاري الفينيقي إلى سبع نطاقات من المستوطنات الفينيقية
المجموعة الأولى: المستوطنات الفينيقية الباكرة في غرب البحر الابيض المتوسط

أ‌.        مستوطنة ليكسوس:) الشكل رقم2)
تأسست ليكسوس حسب قراءة لنص بيلنيوس الشيخ  [4] قبل قادس ، ويمكن اعتبارها بذلك أقدم مستوطنة فينيقية بالغرب ، يقول نص بلين الشيخ : (( ليكسوس كانت بها حدائق الهسبريد  وبها معبد هرقل الذي يعتبر أقدم من معبد قادس))
أما بخصوص المعطيات الأثرية فان البعثة الاسبانية- المغربية 1995-1999 [5] التي قامت بإعادة دراسة بقايا المواد المحفوظة في متحف تطوان - التي تعود إلى موقع ليكسوس خلال الأبحاث الماضية-   أرخت لها بالقرن 8 ق.م. كما أكدت على فرضية الاستيطان الفينيقي من خلال الكشف عن بقايا جدران لمساكن فينيقية بليكسوس ( الشكل رقم 4) .

ب‌.    مستوطنة قادس ( الشكل رقم 3)
ترجع العديد من النصوص الأدبية تأسيسها إلى حوالى 1110 ق.م:
·        نص فيلي باتركولي[6] : (( في العام الثمانين على سقوط طروادة ، اقام الاسطول الصوري ، الاقوى في البحر ، مدينة في اخر الدنيا ، في اسبانيا علي جزيرة يلفها المحيط هي مدينة قادس))
·        نص سترابون [7] : (( أمر وسيط روحي الصوريين بإقامة مستوطنة عند أبواب المضيق وقد منيت حملتاهم الأوليان بالفشل ، لان نتائج تقديم القرابين كانت غير موفقة ، وكان يجب انتظار المرة الثالثة ليتم بناء هيكل في الجزيرة والمدينة في غربيها ))
·        نص ديودورالصقلي [8]: (( قادس مستوطنة فينيقية اسسها الفينيقيون ما وراء المضيق وبنو فيها هيكلا فخما لهرقل ))
·        نص بومبونيوس ميلا [9]: (( توجد مدينة قادس الغنية علي جزيرة يفصلها عن القارة مضيق ضيق ، ويقوم على الأطراف الأخر من هذه الجزيرة معبد لهرقل يعود تأسيسه إلى أيام حرب طراودة ))
وبسبب استمرار النشاط البشري بالمنطقة لم تكشف الأبحاث الأثرية[10] سوى بالكشف عن بعض اللقى ذات الطابع الشرقي في موقع كوادلاتي الموجه لقادس تعود للقرن 8 ق.م .
ت‌.    مستوطنة اوتيكا : ) الشكل رقم 5)
 تأسيس اوتيكا من طرف الفينيقيين حوالي  1101ق.م لتدعيم الطريق الفينيقية نحو المحيط. ومن النصوص التي تناولت تأسيس هذه المستوطنة ، نجد  نص اريسطو المزعوم [11]، الذي يقول فيه انه بالاعتماد على الحوليات الفينيقية فان تأسيس اوتيكا كان حوالي 287 سنة  قبل قرطاج . وإذا ما اعتمدنا تاريخ 814-813 ق.م كتاريخ لتأسيس العاصمة البونية فإننا نحصل علي تاريخ حوالي 1101ق.م.
نص أخر نجده عند سترابون[12]  يتحدث فيه عن تأسيس مستوطنات من طرف التجار الفينيقيين الذين اجتازوا أعمدة هرقل على شواطئ البحر الخارجي، وأيضا بالقرب من وسط الساحل الليبي بعد وقت قريب قصير من نهاية حرب طروادة .
نفس الشيء فان الأبحاث الأثرية، التي قام بها الباحث ب. سنتاس[13] أكدت إلى أن اوتيكا تأسست علي نهر لمجردة ، أن مخلفات المقابر الفينيقية أرخ لمحتوياتها مابين القرن الثامن والرابع ق.م، و لم تكشف عن لقى تعود إلى ما قبل  القرن الثامن ق.م.
¬   نستنتج إذا عدم تطابق المعطيات الأدبية و الاركيولوجية حول تأسيس هذه المستوطنات الباكرة .
المجموعة الثانية : تأسست حسب المصادر التاريخية في القرن التاسع ق.م
أ‌.        اوزا Auza
تأسست اوزا Auza من طرف ايتوبعل الفينيقي (887-856 ق.م) على سواحل تونس الحالية ونجد نص لمندروس الايفيزي يقول فيه أنه حسب حوليات الصورانية قام الملك الصوري ايتوبعل بتأسيس مستوطنة تحمل اسم اوزا وذلك خلال النصف الأول من القرن التاسع ق.م.
ب‌.    مستوطنة قرطاج ( الشكل رقم 5)
تأسست قرطاج من طرف الأميرة الفينيقية عليشة عام 814-813 ق.م حسب النصوص الكلاسيكية ومنها نجد  نص جوستان[14] . وقد قامت اوتيكا بمساعدة لاجئي صور عند تشييدهم لمدينتهم التي أطلقوا عليها اسم المدينة الجديدة لاعتبارات سياسية واضحة .
¬   يمكن اعتبار هاتين المستوطنتين صوريتين، كقادس واوتيكا وليكسوس. و كما هو الشأن بالنسبة للمجموعة الأولى ، فان أقدم اللقى الأثرية بقرطاجة لا تتعدى أيضا القرن الثامن ق.م .أما اوزا فلا يزال تحديد المستوطنة موضع جدل بين الباحثيين [15].

المجموعة الثالثة  تمثلها مستوطنات الساحل الشرقي للاندلس ( الشكل رقم 6)
 المح “ افيينوس ”  Avienus  [16] إلى وجودها عندما ابرز في قصيدته  Ora maritima  أن الساحل الممتد بين الميريا ومالقا كان يعرف " حشدا من الفينيقيين" . علاوة على أن المصادر القديمة أشارت إلى وجود ثلاثة تجمعات فينيقية هناك، وهي مالقا malaka وسيكسي sexi  وابديرا abdera  . حسب ماريا اوخيانا اوبيت فالاكتشافات الاركيولوجية أثبتت أن المنطقة مثلت واحدة من أكثر التجمعات الفينيقية كثافة بالبحر الأبيض المتوسط الغربي[17].

المجموعة الرابعة تمثلها المستوطنات الفينيقية في صقلية( الشكل رقم 7)
يورد المؤرخ الإغريقي توسيديد في كتابه حرب البيلوبونيز الذي ألفه في القرن الخامس قبل الميلاد أن  الفينيقيين كانوا  يقطنون هنا وهناك في كل صقلية ، بعد استقرارهم في رؤوس المتوغلة في البحر وفي الجزيرة الصغيرة القريبة من الساحل ، وذلك لتسهيل علاقاتهم التجارية مع الصيقوليين، وعندما قدم الإغريق إلى صقلية بإعداد كبيرة ، غادر الفينيقيون أغلبية المناطق التي استقروا بها وتجمعوا في موتيا وصولوييس وبانورمو... ، لان المسافة من هناك بين صقلية وقرطاج تعتبر الأكثر قربا [18] ، وكانت موتيا أهم مركز استراتيجي هناك [19]. نظرا لمراقبتها لمضيق قرطاج وتشييدها في جزيرة قريبة من الساحل . كما أكدت المعطيات الاركيولوجية أن تأسيس موتيا كان في نهاية القرن الثامن قبل الميلاد , بينما كانت أقدم الدلائل في باليرمو لا تتعدى القرن السابع قبل الميلاد ، في حين لم يكشف بعد عن مكان صولونتو[20].
المجموعة الخامسة:  تمثلها الجزر الموجودة بين صقلية وشمال افريقيا ( الشكل رقم 8)
وهي جزيرة مالطا وكوزو وبانتيلاريا ولامبيدوزا , ففيما يتعلق بمالطا يخبرنا ديدور لصقلي أن الفينيقيين بعد أن أصبحوا سادة الغرب سيطروا على الجزيرة التي تتوفر على موانئ جيدة [21] . وقد كشفت المعثورات الاركيولوجية عن وجود فينيقي بمالطا منذ نهاية القرن الثامن قبل الميلاد على اقل تقدير[22]. أما كوزو التي يتشابه اسمها مع كلمة كاولوس Gaulos  ذات الأصل الفينيقي ، وبانتيلاريا التي عرفت قديما باسم ايرانيم Iranim  ، فإنها توحيان بانتماء فينيقي عتيق [23].
المجموعة السادسة ( الشكل رقم 5)
وتعتبرها المصادر القديمة مستوطنات صورية او صيدونية ، وتمثلها لبدة الكبرى وهيبون وحضرموت بتونس، غير أن المراكز لم تفرز لحد الساعة دلائل اركيولوجية تعود إلى العصر التوسعات الفينيقية باستثناء لبدة الكبرى [24].
المجموعة السابعة(الشكل رقم9)
 تمثلها جزيرة سردينيا، حيث أثبتت المعثورات الأثرية وجود معمرين فينيقيين منذ القرن السابع قبل الميلاد، بكل من نورا وسوليكس وطاروس وبيتيا وكاراليس، أي في الجهة الغربية للجزيرة، بل اكتشفت بعض المواد الاركيولوجية في سوليكس وطاروس تؤرخ بالقرن الثامن قبل الميلاد[25].




   II.            العلاقة المزدوجة بين التجارة والاستيطان
من اجل إبراز العلاقة المزدوجة بين التجارة والاستيطان، يمكن الحديث عن نموذجين في هذا الإطار، وذلك علي سبيل المثال لا للحصر وهما نموذج قادس وليكسوس.
1.    النموذج التجاري لقادس[26] ( الشكل رقم 3)
كانت قادس بمثابة مدينة تجارية كبرى، تم تأسيسها لاستغلال الموارد المعدنية لمنطقة الأندلس السفلى المعروفة باسم طرطسوس، حيث أقامت معها علاقة تجارية مباشرة. ونظرا لارتباط هذه التجارة بمصالح العرض والطلب، فإنها أفرزت في نهاية المطاف نسقا من العلاقات المتبادلة بين الفينيقيين والمحليين، وعلى الخصوص الأقوياء والوكلاء المفوضين من طرف الدولة، الذين كانوا مرتبطين بالمؤسسات السياسية لصور عبر معبد ملقارت. وأصبح هؤلاء الأمراء التجار حسب إحدى تعابير التوراة، مكلفين بأساطيل تجارية هامة، يعملون لصالحهم الخاص بعد مرور وقت وجيز، كما يعملون لصالح مؤسسة الدولة المتمثلة في ملك صور.
وقد انحصر عمل قادس حسب ماريا اوخينا اوبيت من جهة في خلق مناطق خاصة بها للاستغلال التجارية ( المغرب الأطلنطي وناهية وهران)، ومن جهة ثانية في المراقبة التدريجية لاستغلال معادن الوادي الكبير الأسفل والاتجار بها. كما ساهمت خصوصيات المجتمع الطرطيسي المتآلف من جماعات كثيفة ومنظمة نسبيا،  في تحديد طابع قادس ووظيفتها التجارية، حيث أن عدم سيطرتها على الظهير الطرطيسي ، يعزى لكونه كان مأهولا بساكنة متطورة منذ مدة. ولهذا السبب كانت العلامات الوحيدة التي نعرفها حول الأنظمة الدفاعية الفينيقية أو تحصيناتها، تقتصر على مدينة قادس نفسها.
2.    النموذج التجاري ليكسوس
أ‌.        من خلال المصادر الأدبية
إن الإشارات الواردة في رحلة حانون حول الليكسيين [27]، -الذين ليسوا إلا السكان الفينيقيين لمستوطنة ليكسوس - الذين كانوا يرعون أغناهم عند رسوا حنون بالقرب من مدينتهم، تفيدنا في اخذ فكرة عن البعد التجاري لليكسوس. فهي توحي بوجود مستوطنة فينيقية تحظي بدراية لا بأس بها بالساحل الأطلنطي للمغرب، وبفضل سكانها الذين ورثوا من أجدادهم الفينيقيين المؤهلات الملاحية والتجارية الضرورية [28]. كما تلمح نفس الإشارات إلى أن المجال إبحار ليكسوس كان يتعدي جزيرة موكادور ليصل ربما في حده الأقصى إلى حوض سوس، مما يرجح أن الفينيقيين اعدوا ليكسوس لتكون لها دائرة نفوذ تجاري ساحل الأطلنطي المغربي، بنفس المعنى الذي كان لمستوطنة قادس بالساحل الأطلنطي الأيبيري. فنص الرحلة لم يقدم لنا الليكسوسين بمثابة مترجمين فقط، بل قدمهم على شكل بحارة ومرشدين أيضا. وإذا كانوا قد دأبوا على تعلم لغة القبائل المحلية إلى جانب لغتهم الأصلية، وتمكنوا من تجميع المعلومات الكافية حول الشواطئ الأطلنطية للمغرب، فان هؤلاء البحارة فعلوا ذلك لأغراض تجارية، وليس فقط لأغراض استكشافية. وهذا يوحى بان ليكسوس كانت تتوفر على أسطول تجاري بما يلزمه من طاقم ومعدات ، وعلى ميناء نشيط[29].
ومن خلال رحلة بوليبيوس Polyboe  [30]، ونظرا للاستناد إلى ليكسوس دون غيرها من المراكز الأخرى كمنطلق لتحديد مواقع مجموعة من المعالم بالساحل الأطلنطي للمغرب، يبدو أن الدور الذي قامت به سالفا في تنظيم التجارة على الساحل الأطلنطي، سوف يستمر  خلال العصر البونيقي. مما يرجح أن تكون ليكسوس قد توفرت على دائرة تابعة لنفوذها التجاري بالساحل الأطلنطي للمغرب منذ العصور القديمة، أن بوليبيوس أشار إلى خليج يدعي ساكيكي Sinum Sagigi ، يوجد مباشرة جنوب ليكسوس. ومن المرجح انه نفس الخليج الذي أطلق عليه سترابون اسم خليج الوكلات التجارية، أي خليج محطات التجارة الفينيقية التي كانت تمثل المجال الإقليمي للنشاط الاقتصادي لليكسوس. كما أن تذكير سترابون[31] بالعدد الكبير للمنشات الفينيقية التي حواها هذا الخليج، انطلاقا من رواية أشاعاها ايراطوسكين  Eratosthéne  ، والتنصيص على أصولها الصورية، واندثارها  عن أخرها ، يوحي بان ليكسوس ، التي كتب لها البقاء وحدها دون المراكز الأخرى ، كانت تعرف نوعا من السيادة والنفوذ على سائر المنشات الفينيقية التي كان يعرفها الساحل الأطلنطي للمغرب. ونحن لا نستغرب من ذلك ، لان من عادة المستوطنات الفينيقية الكبرى مثل قرطاج وقادس أن تعمل على خلق دوائر نفوذهما، بتأسيس عدة نماذج من المنشات الجديدة[32].
ب‌.    من خلال المعطيات الأثرية
علاوة على المعطيات  المصدرية ، يمكن إضافة بعض العناصر الاركيولوجية التي توفرها ليكسوس نفسها ، لتدعيم الفرضية التي تجعلها مستوطنة تجارية إلى جانب اعتبارها مستوطنة لتعمير السكاني . فالجرار الكبيرة من نوع pithoi  ( الشكل رقم )، التي تم اكتشافها في جل الاستبارات التي أنجزها كل من مكيل طراديل وميشيل بونسيك، وقامت بها البعثة الاركيولوجية المغربية- الاسبانية ، توحي بوجود مركز فينيقي مختص في التجارة. ذلك أن هذا النوع الخزفي كان يستخدم في الغرب المتوسطي أو في الشرق الفينيقي كأواني كبيرة للتخزين ونقل البضاعة. ومما يرجع الاستعمال أن بعض النماذج كانت تتوفر على عروتين مزدوجتين ، وفي بعض الحالات على ثلاث عروات مزدوجة، مما يعني أن الآنية كانت تستخدم لنقل بضاعة ثقيلة. بل أبرزت الدراسة التي قامت بها ماريا بيلين وآخرون للمواد الأثرية التي اكتشفها طراديل في استبار البازيليك، أن ليكسوس عرفت جرارا من هذا النوع لها ثلاث عروات ملتصقة من كل جانب [33] .
كما نشير كذلك إلى الامفورات الفينيقية الكبيرة الحجم التي كشفت ليكسوس علي عدد من قطعها ( الشكل رقم)، دون أن يتم العثور لحد الساعة على أي نموذج كامل. ومن المعلوم أن الامفورات الفينيقية تنتمي إلى الصنف الأواني الخزفية التي كانت تستخدم لنقل البضاعة، وبالتالي تنم عن النشاط التجاري للمركز التي وجدت فيه . وهذا ما يفسر توفرها على فوهة ضيقة التي تسمح حسب ما لاحظه ميكيل طراديل من إغلاقها بسهولة [34]. كما كانت الحواشي وعروات هذه الامفورات تحز بالمنشار في بعض الحالات، مما يعطي الانطباع بان الأمر يتعلق بإحدى وسائل المراقبة التي تمكن من تعليم محتوي البضاعة التي تتضمنها[35]. ومن حسن الصدف أن ليكسوس نفسها كشفت عن هذه الظاهرة، بعد أن تبين أن احدي القطع المنتمية للامفورات الفينيقية كانت تتوفر على علامة منقوشة في الجانب الخارجي للجزء الموجود تحت الكتف[36].
إلى جانب جرار النقل والتخزين من نوع pithoi ، والى جانب الامفورات ، عرفت ليكسوس أوان خزفية أخري بعد وجودها علامة التجارة الفينيقية، نذكر منها القارورات المعروفة بقارورات العطر الفنيقية. وكانت هذه القارورات تستخدم كأداة لحزم المواد التجارية السائلة مثل البلسم والعطور[37].










هكذا إذن يتضح لنا أن الاستيطان الفينيقي في غرب البحر الأبيض المتوسط، جاء نتيجة النشاط التجاري للفينيقيين بشكل أساسي ، فالتجارة  ساهمت في خلق تلك المستوطنات ، والمستوطنات بدورها ساهمت في تطور وازدهار التجارة الفينيقية

البيبلوغرافيا
المصادر
·        Diodore, V
·        Diodore de sicile, XVI
·        Pline Ancien, histoire Naturelle.
·        Pomponius Mela , III
·        Pseudo Aristote, sur les merveilles étudus.
·        Salluste,  Guerre de Juraurtha
·        Strabon, XVII
·        Thycydide, La guerre du Pélopnnées.
·        Velleius Paterculus,I
·        Avienus , Ora maritima  

المراجع:

·        محمد صغير غانم ، التوسع الفينيقي في غرب البحر الابيض المتوسط . رسالة دبلوم الدراسات العليا في التاريخ القديم، ديوان المطبوعات الجامعية- الجزائر، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع ، بيروت– لبنان ، 1982 .
·        Alarez (N) Gomez Bellard (C) , de Madaria (J.L) ,La ocupacion fenicia , Lixus. Colonia fenicia y ciudat punuico mauritana. Anotaciones sobre su ocupación medieval, saguntum Extra 4, 2001.
·        Aubet (Ma. E), tiro y las colonias fenicias de occidente, Barcelona, Editorial Bellaterra, 1987.
·        Belén(M), Escacena (J.L), López Roa (c) , Rodero(A), Fenicios en el Atlántico. Excavaciones españolas en Lixus : Los conjuntos “ C. Montalbin “y “ cata basilica” Homenaje a M.Ferandez Miranda, complutum extra, 6, 1996 .
·        Belén(M), Escacena (J.L), López Roa (c) , Rodero(A), Materials de época fenicia de las excavacions de Tarradell conservados en el museo de Tetuan, in Lixus. Colonia fenicia y ciudat punuico mauritana. Anotaciones sobre su ocupación medieval, saguntum Extra 4, 2001.
·        Desanges (J), Recherches sur l’activité des Méditerranéens aux confins de l’Afrique, Ecole française de Rome, palais Farnèse, 1978.
·        Jodin (A), Mogador, comptoir phénicien du maroc atlantique, Etudes et travaux d’archéologie marocaine, vol.II, Tanger, 1966. 
·        Ponsich(M), Lixus Le quartier des temples, Etudes et travaux d’archéologie marocaine, t.IX, Rabat.1981.
·        Tarradell (M) ,Marruecos púnico, Publiaiones de la Faultad de Letras ( Universidad de rabat) Instituto Mulay El Hasan, Editorial Cremades, Tetuan

الاطاريح
Nicolas Carayon, Les Portes Phéniciens et Punique, Géomorphologie et Infrastructures, thèse de Doctorat, Université Marc Bloch, Strasbourg, 2008.


























الشكل رقم 1
المنشأت الفينيقية في البحر الأبيض المتوسط


























الشكل رقم 2












الشكل رقم 3
خريطة لمدينة قادس والساحل الغربي لشبه الجزيرة الايبيرية
المصدر: Nicolas Carayon, Les Portes Phéniciens et Punique, Géomorphologie et Infrastructures, thèse de Doctorat, Université Marc Bloch, Strasbourg, 2008. p. 897.







الشكل رقم 4

جدران المساكن الفينيقية بليكسوس المكتشفة عام 1999 باستبار الخروب
المصدر: Alarez (N) Gomez Bellard (C) , de Madaria (J.L) ,La ocupacion fenicia , Lixus. Colonia fenicia y ciudat punuico mauritana. Anotaciones sobre su ocupación medieval, saguntum Extra 4, 2001, p1. I, p46













الشكل رقم 5
خريطة لاوتيكا وقرطاج
المصدر: Nicolas Carayon, Les Portes Phéniciens et Punique, Géomorphologie et Infrastructures, thèse de Doctorat, Université Marc Bloch, Strasbourg, 2008. p. 888.










الشكل رقم 6
خريطة لساحل الشرقي لشبه الجزيرة الاييرية
المصدر: Nicolas Carayon, Les Portes Phéniciens et Punique, Géomorphologie et Infrastructures, thèse de Doctorat, Université Marc Bloch, Strasbourg, 2008. p.896.















الشكل رقم 7
خريطة صقلية
المصدر:  Nicolas Carayon, Les Portes Phéniciens et Punique, Géomorphologie et Infrastructures, thèse de Doctorat, Université Marc Bloch, Strasbourg, 2008. p.891.










الشكل رقم 8
خريطة لجزيرة مالطا
المصدر: Nicolas Carayon, Les Portes Phéniciens et Punique, Géomorphologie et Infrastructures, thèse de Doctorat, Université Marc Bloch, Strasbourg, 2008. P 891.










الشكل رقم 9
خريطة لجزيرة سردينيا
المصدر: Nicolas Carayon, Les Portes Phéniciens et Punique, Géomorphologie et Infrastructures, thèse de Doctorat, Université Marc Bloch, Strasbourg, 2008. P 892.




[1] Salluste,  Guerre de Juraurtha, XIX ,I.
[2]  محمد صغير غانم ، التوسع الفينيقي في غرب البحر الابيض المتوسط . رسالة دبلوم الدراسات العليا في التاريخ القديم، ديوان المطبوعات الجامعية- الجزائر، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع – لبنان ، 1982 ص 70-71 .
[3] Aubet (Ma. E), tiro y las colonias fenicias de occidente, Barcelona, Editorial Bellaterra, 1987. p 289.
[4] Pline Ancien, histoire naturel, XIX, 63.
[5] Alarez (N) Gomez Bellard (C) , de Madaria (J.L) ,La ocupacion fenicia , Lixus. Colonia fenicia y ciudat punuico mauritana. Anotaciones sobre su ocupación medieval, saguntum Extra 4, 2001. P246.
[6] Velleius patrculus ,I , 2 .
[7] Strabon , I ,5,5.
[8] Diodore V , 20.
[9] Pomponius Mela. III, 46
[10]  الشادلي بورنية ، قرطاج البونية تاريخ وحضارة . ص 69-70 .
[11] Pseudo Aristote, sur les merveilles étudus , p 134.
[12] Strabon , I, 2, 3 .
[13] Aubet ( Ma. E), tiro y las colonias fenicias de occidente ,op. cit, p 144.
[14]  النص الكامل للأسطورة نجدها عند:
Justin, abrégé des histoires philippiques, XVIII, 4-6.
[15]  الشاذلي بورنية ، نفس المرجع، ص 118.
[16] Avienus , Ora maritima  , v, 440 , 459-460 .
[17] Aubet ( Ma. E), tiro y las colonias fenicias de occidente ,op. cit, p144.
[18]  Thycydide, La guerre du Pélopnnées ,Liver VI ch . I, 2.
[19] Diodore de sicile, XVI, 48, 2 ; 51,1
[20] Aubet ( Ma. E), tiro y las colonias fenicias de occidente, op. cit, p145.
[21] Diodore de sicile, V, 12, 3.
[22] Aubet ( Ma. E), tiro y las colonias fenicias de occidente, op. cit, p145.
[23] Idem, ibid, p. 145.
[24] Idem, ibid, p. 145.
[25] Idem, ibid, p. 146.
[26] Aubet ( Ma. E), tiro y las colonias feniias de occidente ,op. cit, p290.
[27] ورد اسم الليكسين في رحلة حانون في الفقرات رقم 6 و 7 و 8 .
[28] Jodin (A) , Mogador , comptoir phénicien du maroc atlantique , Etudes et travaux d’archéologie marocaine, vol.II , Tanger , 1966.  p. 191-192.
[29] العزيفي ( محمد رضوان) ، الفينيقيون بالساحل الاطلنطي للمغرب من خلال رحلة حنون، المصباحية، مجلة تصدرها كابة الداب والعلوم الانسانية سايس- فاس ، سلسلة العلوم الانسانية ، العدد الرابع ، 2000.
[30] Desanges (J), Recherches sur l’activité des Méditerranéens aux confins de l’Afrique, Ecole française de Rome, palais Farnèse, 1978. P 416.
[31] Strabon, XVII, 3, 2, 3, 8.
[32] Idem, ibid, p P 416.
[33] Belén(M), Escacena (J.L), López Roa (c) , Rodero(A), Fenicios en el Atlántico. Excavaciones españolas en Lixus : Los conjuntos “ C. Montalbin “y “ cata basilica” Homenaje a M.Ferandez Miranda, complutum extra, 6, 1996 . p352.
[34] Tarradell (M) ,Marruecos púnico, Publiaiones de la Faultad de Letras ( Universidad de rabat) Instituto Mulay El Hasan, Editorial Cremades, Tetuan p.195.
[35] Jodin (A) , Mogador , comptoir phénicien du maroc atlantique , op , cit , p. 129
[36] Belén(M), Escacena (J.L), López Roa (c) , Rodero(A), Materials de época fenicia de las excavacions de Tarradell conservados en el museo de Tetuan . p 93.
[37] Ponsich(M), Lixus Le quartier des temples, Etudes et travaux d’archéologie marocaine, t.IX, Rabat.1981. p 65.

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire