vendredi 6 février 2015

الأوضـاع الإقتصاديـة في المغرب خلال القرن 19

      من المعلوم أن المغرب كان من مجتمعات ماقبل الرأسمالية، لذلك كان يعتمد على أساليب وأدوات بدائية في الجانب الاقتصادي، حيث ظلت الأرض الوسيلة الوحيدة للإنتاج، وارتكز المدخلول الاقتصادي عموما على الفلاحة بالدرجة الأولى وما يرتبط بها من صناعة، كالصوف والجلود والقطن... فقد كانت الفلاحة تكتسي أهمية قصوى في حياة البلاد الاقتصادية، وحتى الاجتماعية، ذلك أن الزراعة وتربية المواشي كانت تشكل نشاط أغلبية السكان، غير أن مختلف الأزمات التي هزت هذا القطاع، نتيجة الكوارث الطبيعية وتعاقب سنوات الجفاف، كانت تؤثر في القطاع التجاري لبلد لم يتعرف بعد على الصناعة، ويعتمد في تجارته على تسويق المنتجات الفلاحية، إلا أن الإنتاج الفلاحي الذي تعول عليه الدولة في الرفع من ركنها الإقتصادي، ظل يتسم بالقلة والخصاص، فالمغرب ولوقت طويل ظل يستعمل أساليب وأدوات عتيقة، كالمحراث الخشبي والمنجل، وقد شكلا الأداتان الوحيدتان اللتان يستعملهما الفلاحون في الحرث والحصاد، بالإضافة إلى ضعف الوسائل التقنية في هذا المجال. كما أن العديد من الزوار الأجانب والرحالة الذين زاروا المغرب خلال القرن 19، لاحظوا أن هناك العديد من الأراضي لم تستغل بما فيه الكفاية، واندهشوا لرؤية الأراضي الشاسعة غير المزروعة، « وأكد بوميي( A. Beamier)  أيضا أن الأراضي المزروعة لا تمثل بالكاد حتى تلث المساحة القابلة للاستغلال »،[[1]] ويرجع عبد السلام لحمير أسباب ذلك إلى أن القبائل التي استقرت بالسهول الخصيبة منذ زمن طويل، واكتسبت خبرة فلاحية هامة، اضطرت إلى الهروب إلى الجبال تجنبا لبطش القبائل الرحل الصحراوية كصنهاجة، أو العربية كبني هلال وبني سليم وبني معقل، التي كانت تعيش حياة الإنتجاع بحثا عن المراعي والأراضي الخصبة حتى حدود ق 19، فأصبحت هذه السهول في معضمها تسثمر في الرعي بدل الزراعة، ويضيف لحيمر عاملا آخر يتمثل في السياسة التي نهجها بعض السلاطين العلويين في تغيير الخريطة القبلية لبلاد المغرب، وذلك عن طريق ترحيل بعض القبائل من أماكن إقامتها إلى مناطق أخرى، إما عقابا لها على تمردها أو مكافأة لها على خذمتها،[[2]] فقد تمت عملية ترحيل عدد من قبائل فازاز إلى سفوح الأطلس المتوسط، وقد دعى سيدي محمد بن عبد الله قبائل آيت إدراسن إلى الاستقرار بالقرب من مكناس، وأقدم على نقل أيت يمور سنة 1765 من تادلة إلى سهول الغرب، وقام بنقل تكنة ومجاط وذوبلال من حوز مراكش إلى حوز فاس ابتدءً من سنة 1780، وقد حاول إرجاع كروان إلى مواطنها بالأطلس،[[3]] وكنتيجة لهذه التنقلات وانعدام الاستقرار، ترتب عنه انعدام الاهتام بالأرض والتشبث بها والتفاني في خدمتها، وهذا ما جعل الفلاحة في المغرب ضعيفة والإنتاج هزيلا، لا يثمر الفائض الضروري لدعم المخزن ونهوضه، والاضطلاع بمسؤوليته.
      وظلت الفلاحة التقليدية العتيقة على هذا الحال  في مختلف أنحاء البلاد خلال القرن 19 ومطلع القرن 20، إلا أن هذه الأساليب والأوضاع تغيرت نتيجة الضغط الأجنبي والتسلط الأروبي على الأراضي والمواشي، مما سيتيح بروز وانتشار النمط الزراعي العصري، وكان الأجانب يستغلون الأوضاع القاسية التي يمربها الفلاحون عقب المجاعات، فتضطرهم إلى بيع أملاكهم ومنهم من يلجأ إلى الاستدانة بضمانة أرضه لتحصيل لقمة العيش، وبذلك كانوا يفقدون الوسيلة الوحيدة لإنتاجهم ومعاشهم، « وكانوا يقعون بسهولة ضحايا أخطبوط المرابين، فيغرقون في الديون ويضطرون إلى التخلي عن ملكياتهم، بعد عجزهم عن الوفاء بما في ذمتهم من ديون، فيتحولون إلى خماسة أو عمال زراعيين، أو نازحيين إلى المدن(...) التي لم يكن يجد فيها طلبا لعمـل بسبب القاعـدة الصناعية الهشة »،[[4]] وبحصول الأوروبيين على حق ملكية الأرض والعقارات بالمغرب غداة مؤتمر مدريد (1880)، انتشر نشاطهم الفلاحي واستقوى، إلا أن المولى الحسن كان فطنا لهذه التحولات واعيا بها، يسلك كل السبل الممكنة لضبط الأمور وحسم مادة فسادهم، ويظهر ذلك من خلال الظهائر الحسنية الكثيرة التي كان يصدرها في حق الأجانب لخدمة مصالح الدولة والرعية، فقد رفض سنة 1880 طلب التجار الأروبيين منحهم رخصا لتصدير المواشي خصوصا الثيران، معللا هذا الرفض بقوله : « لا يخفاكم ما وقع من الموت في الكسيبة بهذه المسغبة القائمة، وبسبب قلة الأنعام ارتفع سعرها، وقل ذلك جدا حتى صار الناس يشتاقون اللحم ».[[5]]
      وقام سنة 1883 بإرسال ظهائر متعددة إلى مختلف العمال والقضاة والأمناء، وقد ركز في هذه الظهائر على دور الفلاحة ومكانتها في الاقتصاد المغربي، وتكشف لنا الرسالة التي أرسلها المولى الحسن إلى القائد سعيد بن العياشي الشياظمي، في 6 جمادى الأولى 1300 / 15 مارس 1883، وهذه بعض عباراتها: « فغير خاف أن الإيالة المغربية ليست كغيرها من الإيالات في المتجارة وضروب الصناعات وموارد الانتفاعات، وأن قوام أمور أهلها وحصول معاشهم ودوام نفعهم وعمارتهم وانتعاشهم، إنما هو بالحرث واكتساب الماشية، ولا حرفة لهم مضاهية لهما في النفع وتوازيهما خصوصا أهل البادية، إذ لا منفعـة لهم غير الزرع والضرع وأصل ذلك كلـه ومنشأ الأرض ومرجعه إليها، وعلى ذلك يعطون لبيت المال المشروع الواجب، وهذا الواجب معظـم جبايته وغالب مدخولاته »،[[6]] وعلى هذا الأساس انبنت النظرة المهمة للأرض في الاقتصاد، في ظل نمط ما قبل الرأسمالية.
      كانت أسعار المنتجات الفلاحية من حبوب ومزروعات ومواشي تتأثر، بالعوامل الطبيعية من جهة، وعوامل أخرى بشرية من جهة ثانية، فسنوات الجفاف التي كانت تقصف القاعدة الاقتصادية للدولة بالإضافة إلى تدخل الأجانب في شؤونها، ووسق المنتجات إليها، كان يضع البلاد في حالة حادة من ارتفاع الأسعار.
جدول يبرز ارتفاع أسعار الحبوب في الصويرة صيف وخريف 1881.[[7]]
المنتوجات
الأشهر
الأسعار بالفرنك
القمح
(لكل 168 كلغ)
يوليوز
20-22
غشت
30
شتنبر
12,50
أكتوبر
47,50
نونبر
50
الذرة
(لكل 152 كلغ)
غشت
12,50
نونبر
17,50
دجنبر
20
الشعير
(لكل 136 كلغ)
يونيو
7,50
نونبر
15

      وفي الميدان التجاري عرف المغرب مبادلات مهمة مع إفريقيا السوداء و المشرق العربي بفضل تجارة القوافل، فقد وفرت هذه الأخيرة أرباحا مهمة لدى التجار والحرفيين وأعيان القبائل والزوايا المستقرة والمسيطرة على المراكز والطرق التجارية المهمة، لكن نشاطها بدأ يتراجع مع ظهور التقنيات الجديدة المتطورة للملاحة الأوروبية، فأنهت عصر التجارة البرية، واستبدلتها بالتجارة البحرية، ونظيف كذلك عاملا آخر أسهم بشكل كبير في تراجع تجارة القوافل، يتجلى في اختراق الفرنسيين لمجال الصحراء الجنوبية الشرقية وسيطرتها على تومبوكتو، وزحفهم على منطقة توات ظمن مشروعهم الهادف إلى الربط بين ممتلكاتهم في الجزائر، بنظيرتها في السنغال عبر التراب الوطني المغربي، وذلك بإنشاء خط سكة حديدية،[[8]] وقد تأثرت السكافة بما أصاب القوافل من تدهور، ففقدت منافذها وأسواقها الإفريقية، لاسيما وأن التزامات المخزن الدولية في الميدان الجمركي، فتحت السبل لغزو المنتوجات الصناعية الأروبية، وبذلك ضعفت المنتوجات المغربية بسبب شدة المنافسة الأجنبية التي تعتمد في إنتاجها على الآلة، وبذلك ظلت الصناعة الحرفية منحصرة في المصنوعات التقليدية، معتمدة على تقنيات وأشكال عتيقة، داخل الحوانيت والدرازات والدكاكين، منطوية على حالها عاجزة عن كل تغيير أو تجديد أو عصرنة، « أما التجـارة الداخلية فقد كانت محدودة نتيجة انعدام الصناعات الآلية وعدم استغلال الخيرات المعدنية، باستثناء بعض مناجم النحاس، علما بأن مناجم الأطلس الغنية التي كانت تستخرج قديما، أضحت غير مستثمرة حيث توقفت منذ أجيال وصار المغرب يستورد من الخارج ما يحتاجه من المعادن المستعملة في أصناف الصناعات التقليدية، هذا فظلا عن استيراد ما يحتاجه من بضائع  وأدوات مصنوعة »، [[9]] وقد فرضت هذه المبادلات مع أروبا إنشاء مراكز تجارية هامة بالمدن الشاطئية ذات الموانئ المفتوحة على التجارة الخارجية، ومن بين هذه الموانئ نجد الصويرة والجديدة والداربيضاء وآسفي... مورست بها مبادلات مهمة مع الدول الأجنبية.

صادرات الشعير والقمح من الدار البيضاء (1891-1893).[[10]]
السنوات
القمح
الشعير
القيمة الإجمالية
بالقنطار
بالفرنك
بالقنطار
بالفرنك
1891
1882
1893
8.069
17.560
40.459
120.985
306.530
708.980
366.630
245.446
152.884
31.818.850
2.075.860
1.528.840
63.939.835
62.472.330
61.680.724

صادرات الشعير والقمح ومجموعهما واتجاهاتهما خلال سنة 1892.[[11]]

صادرات الشعير واتجاهها خلال 1892
صادرات القمح واتجاهها خلال 1892
الاتجاه
بالكلغ
بالبسيطة
الإتجاه
بالكلغ
بالبسيطة
بريطانيا
فرنسا
إسبانيا
تونس
البرتغال
سويسرا
ألمانيا
جزر الكناري
39.941.584
3.822.850
1.389.437
216.392
194.500
192.980
75.907
20.340
3.684.995
344.076
131.305
21.000
17.510
18.725
8.115
1.830
بريطانية
فرنسا
إسبانية
559.900
100.000
1.674.252
110.800
19.525
331.155
المجموع
45.853.990
4.227.556
المجموع
2.334.152
461.480
      إلا أن التجارة الخارجية بحكم ارتباطها بوسق الموارد الفلاحية بالخصوص، كانت تعرف اضطرابا في الميزان التجاري نتيجة الظروف الطبيعية التي كان يمر بها المغرب من حين لآخر، والتي كانت تشل من حركة التجارة، فقدسجلت السنوات من 1878 إلى غاية 1883 انخفاضا في قيمة التجارة البحرية بميناء الصويرة كما يبين المبيان التالي:

حالة التجارة البحرية  في ميناء الصويرة ما بين سنتي 1878 - 1883.[[12]]

      تسببت الظروف الطبيعية القاسية في تفاقم الوضعية التجارية، فانعدام الفائض حال دون قيام مبادلات، فركز على الاستيراد مما خل بالميزان التجاري، « على أن ما زاد من تعميق آثار الانهيار التجـاري على أنه هم الصادرات أكثر من الواردات، نظرا لأن المجاعـة حولت المغـرب من بلد يصدر الطعام إلى بلد يستورده »،[[13]]

واردات الحبوب بالصويرة بالكلغ من فاتح يناير إلى 30 يونيو 1878.[[14]]


من إسبانيا
من وهران
من بريطانيا
من إسبانيا
المجموع
القمح
اللوبياء
الذرة
الشعير
الحمص
القمح
الأرز
299.612
19.826
251.485
137.729
5.000
7.500
2.900
7.200
1.000
28.000
173.024
6.000
68.876
12.500
258.210
.............
261.000
32.500
............
25.832
2.550.340
............
............
150.000
............
............
102.208
............
565.022
20.826
690.485
623.253
11.000
............
2.565.740

المجمـــــوع:......................4.476.326
القيمة الكليـة:......................1.552.685





واردات الحبوب بآسفي خلال النصف الأول من غشت 1887.[[15]]

المصدر
المادة
الوزن ( بالكلغ)
القيمة بالفرنك
إنجلاتيرا




الجزائر

الولايات. م.أ
القمح
الشعير
الذرة
الدقيق
الجلبان
القمح
الشعير
الذرة
184.000
111.000
168.750
86.000
50.000
46.000
37.000
336.000
56.000
28.000
38.000
40.000
23.000
14.000
9.000
76.000
القيمة بالفرنك
285.000

     
      لقد تم استيراد سنة 1889 لوحدها ما قيمته 5.871.275 فرنك موزعة على المنتجات الغذائية كما يلي[[16]]:
الشعير...............................................................1.085.400 فرنك
اللوبية...............................................................34.925 فرنك
التمر ...............................................................22.5000 فرنك
الدقيق..............................................................1.883.300 فرنك
الفول...............................................................129.700 فرنك
الذرة................................................................883.425 فرنك
الحمص..............................................................5.000 فرنك
البطاطس............................................................10.725 فرنك
الأرز................................................................1.639.125 فرنك
القمح...............................................................177.075 فرنك

      ولم تقف الأزمات عند ارتفاع الأسعار واضطرار المخزن إلى استيراد الأغذية من الخارج، بل تسببت أيضا في انهيار الموارد الجمركية، فقد قدر مييج (J. L. Miege) انهيار القيمة الإجمالية للجمارك وحددها في 58.000.000 فرنك في سنوات 1874-1877 و 40.000.000  فرنك سنة 1878، بينما انحصرت بين 34.000.000 فرنك و 40.000.000 في السنوات 1879-1884، [[17]] لقد تسبب هذا النزيف في تفاقم الأزمة المالية والدفع بالعملة المغربية نحو مزيد من الهبوط أكثر مما كانت عليه قبل ذلك، فقد أورد الناصري في "الاستقصا" أن الحالة التي آلت إليها وضعية العملة المغربية، « بسبب ملابسة الفرنجة وغيرهم من أهل الربا للناس، وكثرة مخالطتهم لهم  في الأفاق الإسلامية(...) حتى إن الرجل من أهل هذا الجيل الذي يقبض في كل شهر راتبا سلطانيا قدره ثلاثون أوقية في حدود سنة 1260هـ (1844م)، ويصرفها بعشر بساسيط... سار اليوم في أعوام التسعين (1908م) يقبض على ثلاثين أوقية بسيطة واحدة وشيئا من الفلوس، فقد زادت فيها كما ترى نحو تسعة أعشار... وبذلك انعكست عوائد الناس غاية الانعكاس، وانقلبت أطوار أهل التجارة وغيرها من الحرف في جميع متصرفاتهم لا في سككهم،  ولا في أسعارهم، ولا في سائر نفقاتهم، بحيث ضاقت وجوه الأسباب على الناس، وصعبت عليهم سبل جلب الرزق والمعاش »،[[18]] وإلى جانب ما ذكرنا، يضيف الناصري عوامل أخرى ساهمت في تدهور العملة النقدية بالمغرب، فيُرجع ذلك أيضا إلى: « قلة فلوس النحاس بمراكش وأعمالها، حتى كانت تنعدم، وذلك بسبب غلاء الريال الإفرنجي بمراكش ورخصه بفاس، فكان صرفه بمراكش يومئذ بثلاث وستين أوقية، وصرفه بفاس بثلاث وخمسين أوقية، فصار التجار يجلبون فلوس النحاس من مراكش إلى فاس ويصرفونها بالريال، فيربحون في كل ريال مثقال(...) فقلت الفلوس بمراكش وتقاعد الناس عليها لما فيه من الربح، وتعطل معاش الضعفاء بذلك ولحق الناس ضرر كثير، فكان الرجل يطوف بالبسيطة والريال في الأسواق فلا يجد من يصرفه له، ولا يتأتى له أن يشتري من ضروريات معاشه ما قيمته أقل من بسيطة »،[[19]] وهكذا نلاحظ أن قيمة النقود كانت تتأثر بمؤثرات داخلية وأخرى خارجية، فقد كان التعامل النقدي محدودا، إلا أن الحضور الأروبي بالمغرب وسع من نطاق المعاملات النقدية، الأمر الذي فاقم من وضعية المجتمع التقليدي، لأن اقتصاد القبيلة في البوادي والأرياف كان لا يستهدف الريع بقدر ماكان معاشي ذاتي، فكانت هذه القبائل تؤدي واجب الدولة عليها من جنس إنتاجها الفلاحي العام، وكان المخزن متأقلما مع هذا النمط الجبائي في البداية، لكن ستتغير الأمور بسبب تسرب تداول النقد إلى البوادي نتيجة احتياج هذه الأخيرة إلى المنتجات الأروبية الدخيلة، كالسكر والشاي... اللذان أصبحا يمثلان في نهاية عهد المولى الحسن ربع إلى ثلث قيمة الواردات،[[20]] ويقول جرمان عياش في هذا الصدد: « كانت هذه الضرائب تؤدى بدفع الحبوب والبهائم بعينها(...) لكن تغيرت هذه الحالة إلى حد أن القاعدة صارت هي دفع الحبوب نقدا ولم يعد دفعها عينا إلا نادرا »،[[21]] وهكذا نلاحظ أن تسديد الضرائب، ورغبة الفلاحين في البوادي في الحصول على سلع جديدة، لم تعد معها القدرة على  الإفلات من جاذبية النقود، وهكذا فإن غزو التعامل النقدي للبوادي غير من الحياة المعيشة والاجتماعية للفلاحين، فالفلاح كان يملأ مطاميره بالمحاصيل تحسبا للأيام الصعبة، لكنه أصبح يبيع محصوله لاحتياجه للنقد، عندما يكون المحصول وافرا، ويفرغ مطمورته التي تقتضي الحكمة الحفاظ عليها مليئة، حتى إذا حلت الأزمة الغذائية وجد نفسه في ضيق شديد يضطره إلى شراء الحبوب بأثمان مرتفعة بعد أن باعها بالبخس، فيجد نفسه في حالة إفلاس،[[22]] ويضيف عمر آفا في مسالة قلة النقود وضآلتها، بأن الاستعمال النقدي والاحتياج إليه كان محدودا عند بداية القرن 19 خاصة في الأرياف، ويرجع ذلك لبساطة الإنتاج وعدم وجود فائض يقضي القيام بالمبادلة، وكذلك لوجود تقاليد اقتصادية واجتماعية تقتضي بالمقايضة دون اللجوء إلى وسيط نقدي، وكان استعماله يرتكز على المدن الكبرى وفي الموانئ حيث تمارس الأعمال التجارية،[[23]] وتعزى ضآلة النقود في المغرب أيضا إلى قلة المعادن النقدية (الذهب/ الفضة/ النحاس)، فقد نقصت كمية معدن الذهب خلال القرن 18، وتسبب في تناقص النقود الذهبية إلى أن اختفت تماما في النصف الثاني من القرن 19، وكذلك حدث لمعدن الفضة بسبب انخفاض مردودية المناجم المغربية، ولجوء المغرب إلى استيرادها من أروبا،[[24]] كما لايجب أن يهمل عامل آخر مهم، يتجلى في تهريب القطع النقدية المغربية الفضية والذهبية إلى أروبا بواسطة التجار الأروبيين، لتعويض النقص الحاصل عندهم لهذين المعدنين « لأن وزن المثقال 29 غراما يقابله 25 غراما بالنسبة للريال الفرنسي، مما شجع هذا التصدير غير الشرعي للحصول على فارق أربع غرامات من الفضة في كل مثقال ».[[25]]
      إن انهيار القيمة المالية المغربية، كان من أهم العوامل التي أدت إلى الانحطاط الاقتصادي لبلاد المغرب خلال القرن 19 وبداية القرن 20، وقد حددت بعض التقديرات مقاييس التدهور ب 80% ما بين 1822 و 1848، أي خلال 20 سنة كما أورد ذلك مييج (Miege) في كتابه "المغرب وأروبا"،[[26]] وكما أوردنا سابقا فإن الناصري يحيل سبب ارتفاع الأسعار المعيشية إلى مخالطة الأجانب، وقد قدر انخفاض قيمة العملة المغربية إلى 90% خلال 30 سنة، ما بين 1844 و1873.[[27]]




[1] - محمد المنصور، "المغرب قبل الاستعمار..."، مرجع سابق، ص 74.
[2] - عبد السلام لحيمر، "النخبة المغربية وإشكالية التحديث"، مرجع سابق، ص ص 82-83.
[3] - محمد المنصور، "المغرب قبل الاستعمار..."، مرجع سابق، ص 31.
[4] - محمد الأمين البزاز، "تاريخ الأوبئة والمجاعات بالمغرب في القرنين 18 و 19"،مرجع سابق، ص 157.
[5] - نفس المرجع، ص 241.
[6] - محمد الأمين البزاز، "تاريخ الأوبئة والمجاعات بالمغرب في القرنين 18 و 19"، ص ص 302-303.
[7] - اعتمد في هذا الجدول على المعطيات الواردة في كتاب، " تاريخ الأوبئة والمجاعات بالمغرب في القرنين 18 و 19"، لمحمد الأمين البزاز، مرجع سابق، ص 255.
[8] - أحمد العماري، "مشكلة الحدود الشرقية بين المغرب والجزائر واستغلالها في المخطط الفرنسي للسيطرة على المغرب من حوالي 1830 إلى حوالي 1902 من خلال رحلة علي السوسي منتهى النقول، القسم الخاص بالحدود"، رسالة لنيل ديبلوم الدراسات العليا، في التاريخ الحديث والمعاصر، تحت إشراف محمد زنيبر، نسخة مرقونة، جامعة محمد الخامس، كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، سنة 1981، ج3/ ص 839.
[9] - أحمد حسن الحجوي، "العقل والنقل في الفكر الإصلاحي المغربي"، مرجع سابق، ص 232.
[10] - محمد الأمين البزاز،" تاريخ الأوبئة والمجاعات بالمغرب في القرنين 18 و 19"، مرجع سابق، ص 154.
[11] - نفس المرجع، ص 155.
[12] - اعتمد في إنجاز هذا المبيان على معلومات واردة في "تاريخ الأوبئة والمجاعات" لمحمد الأمين البزاز، مرجع سابق،
 ص 311.
[13] - محمد الأمين البزاز، "تاريخ الأوبئة والمجاعات بالمغرب في القرنين 18 و 19"، مرجع سابق، ص 113.
[14]  - نفس المرجع، ص 244.
[15] - محمد الأمين البزاز، "تاريخ الأوبئة والمجاعات بالمغرب في القرنين 18 و 19"، مرجع سابق، ص 244.

[16] - نفس المرجع، ص 313.
[17] - محمد الأمين البزاز، "تاريخ الأوبئة والمجاعات بالمغرب في القرنين 18 و 19"، مرجع سابق، ص 113.
[18] - أحمد بن خالد الناصري، "الاستقصا..."، مصدرسابق، ج8/ ص 121.
[19] - نفس المصدر، ص 181.
[20] - محمد الأمين البزاز، "تاريخ الأوبئة والمجاعات بالمغرب في القرنين 18 و 19"، مرجع سابق، ص 158.
[21] - نفس المرجع، نفس الصفحة.
[22] - نفس المرجع ، ص ص 158-159.
[23] - عمر آفا، "مسألة النقود في تاريخ المغرب في القرن 19 (سوس 1822-1906)"، جامعة القاضي عياض، منشورات كلية الأدب و العلوم الإنسانية، أكادير، أطروحات و رسائل رقم (1)، الطبعة الأولى 1408-1988، ص 182.
[24]- عمر آفا، "مسألة النقود في تاريخ المغرب في القرن 19"، ص مرجع سابق، 183.
[25]- نفس المرجع، ص 185.                     
[26]- نفس المرجع، ص 203.
[27]- أحمد بن خالد الناصري، "الاستقصا..."،  ج8/ ص 203.